فصل: قال الخطيب الشربيني:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال نظام الدين النيسابوري:

{وَالسماء ذَاتِ البروج (1)}
التفسير:
لما أخبر في خاتمة السورة المتقدمة أن في الأمة مكذبين سلى نبيه صلى الله عليه وسلم بأن سائر الأمم السالفة كانوا كذلك كأصحاب الأخدود وكفرعون وثمود.
أما البروج فأشهر الأقوال أنها الأقسام الاثنا عشر من الفلك الحمل والثور إلى آخرها. وإنما أقسم بها لشرفها حيث نيط تغيرات العالم السفلي بحلول الكواكب فيها.
وقيل: هي منازل القمر الثمانية والعشرون.
وقيل: وقت انشقاق السماء وانفطارها وبطلان بروجها. أما الشاهد والمشهود فأقوال المفسرين فيهما كثيرة، وقد ضبطها القفال بأن اشتقاقهما إما من الشهود الحضور، وإما من الشهادة والصلة محذوفة أي مشهود عليه أو به. والاحتمال الأول فيه وجوه:
الأول: وهو مروي عن ابن عباس والضحاك ومجاهد والحسن بن علي وابن المسيب والنخعي والثوري، أن المشهود يوم القيامة والشاهد الجمع الذي يحضرون فيه من الملائكة والثقلين الأولين والآخرين لقوله: {من مشهد يوم عظيم} [مريم: 37] {ذلك} {يوم مجموع له الناس} [هود: 103] قال جار الله: وطريق تنكيرهما ما مرّ في قوله: {علمت نفس ما أحضرت} [التكوير: 14] كأنه قيل: وما أفرطت كثرته من شاهد ومشهود. ويجوز أن يكون للتعظيم أي شاهد ومشهود لا يكتنه وضفهما. وإنما حسن القسم بيوم القيامة لأنه يوم الفصل والجزاء وتفرد الله بالحكم والقضاء.
الثاني وهو قول ابن عمر وابن الزبير أن المشهود يوم الجمعة وأن الشاهد الملائكة. روى أبو الدرداء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أكثروا الصلاة على يوم الجمعة فإنه يوم مشهود تشهده الملائكة».
الثالث أنّه يوم عرفة والشاهد من يحضرة من الحجاج ققال الله تعالى: {يأتين من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم} [الحج: 27] وحسن القسم به تعظيماً لأمر الحج. يروى أنه تعالى يقول للملائكة يوم عرفة «انظروا إلى عبادي شعثاً غبراً أتوني من كل فج عميق أشهدكم أني قد غفرت لهم وأن إبليس يصرخ ويضع التراب على رأسه لما يرى يف ذلك اليوم من نزول الرحمة».
الرابع أنه يوم النحر لأن أهل الدنيا يحضرون في ذلك اليوم بمنى والمزدلفة. الخامس أنهما كل يوم فيه اجتماع عظيم للناس فيتناول الأقوال المذكورة كلها، والدليل عليه تنكيرهما لأن القصد لم يكن فيه إلى يوم بعينه.
والاحتمال الثاني فيه أيضًا وجوه:
أحدها: أن الشاهد هو الله تعالى والمشهود به هو التوحيد لقوله: {شهد الله أنه لا إله إلا هو} [آل عمران: 18].
وثانيها الشاهد هو الأنبياء والمشهود عليه النبي صلى الله عليه وسلم لقوله: {فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد} [النساء: 41].
وثالثها العكس لقوله: {وجئنا بك على هؤلاء شهيداً} [النساء: 41].
ورابعها الشاهد الحفظة والمشهود عليه المكلفون لقوله: {وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد} [ق: 21] {وإن عليكم لحافظين} [الانفطار: 11].
وخامسها وهو قول عطاء الخراساني: الشاهد الجوارح والمشهود عليه الإنسان {يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم} [النور: 24].
وسادسها الشاهد والمشهود عيسى وأمته كقوله: {وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم} [المائدة: 117].
وسابعها أمة محمد صلى الله عليه وسلم وسائر الأمم {وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس} [البقرة: 143].
وثامنها قال الإمام في تفسيره: الشاهد جميع الممكنات والمشهود له واجب الوجود أخذاً من قول الأصوليين إنه استدلال بالشاهد على الغائب.
وتاسعها الحجر الأسود والحجيج للحديث «الحجر الأسود يمين الله في أرضه يؤتى به يوم القيامة له عينان يبصر بهما يشهد على من زاره» أو لفظ هذا معناهـ.
وعاشرها الأيام والليالي وأعمال بني آدم كما روي عن الحسن: ما من يوم إلا وينادي إني يوم جديد وإني على ما تعمل فيّ شهيد.
أما جواب القسم فعن الأخفش أنه {قتل} واللام مقدر والكلام على التقديم والتأخير أي قتل أصحاب الأخدود والسماء ذات البروج.
وعن ابن مسعود وقتادة واختاره الزجاج أن الجواب هو قوله: {إن بطش ربك لشديد} وقيل: إن الذين فتنوا وما بينهما اعتراض. واختار الزمخشري وطائفة من المتقدمين أنه محذوف. ثم اختلفوا فقال المتقدمون: المحذوف هو إن الأمر حق في الجزاء على الأعمال.
وقال في الكشاف: هو ما دل عليه قتل فكأنه أقسم بهذه الأشياء أن كفار قريش ملعونون كما لعن أصحاب الأخدود، وذلك أن السورة وردت في تثبيت المؤمنين وتصبيرهم على أذى أهل مكة وتذكيرهم بما جرى على من قبلهم من التعذيب على الإيمان حتى يقتدوا بهم ويصبروا على أذى قومهم ويعلموا أن كفارهم أحقاء بأن يقال فيهم قتلت قريش، أي لعنوا كما قتل أصحاب الأخدود وهو الخد أي الشق في الأرض يحفر مستطيلاً ونحوهما بناء.
ومعنى الخق والأخقوف بالخاء الفوقآنية منه الحديث: «فساخت قوائمه في أخاقيق جرذان» عني به فرس سراقة حين تبع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد خروجه من الغار. والمعتمد من قصص أصحاب الأخدود ما جاء في الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم:
«أنه كان لبعض الملوك ساحر، فلما كبر ضم إليه غلاماً ليعلمه السحر. وكان في طريق الغلام راهب يتكلم بالمواعظ لأجل الناس، فمال قلب الغلام إلى حديثه. فرأى في طريقه ذات يوم دابة أوحية قد حبست الناس فأخذ حجراً فقال: اللهم إن كان الراهب أحب إليك من الساحر فاقتلها بهذا الحجر فقتلها. وكان الغلام بعد ذلك يتعلم من الراهب إلى أن صار بحيث يبرئ الأكمه والأبرص ويشفي من الداء، وعمي جليس للملك فأبرأه فأبصره الملك فسأله: من ردّ عليك بصرك؟ فقال: ربي. فغضب فعذبه فدل على الغلام، فعذب الغلام حتى دل على الراهب، فلم يرجع الراهب عن دينه فقدّ بالمنشار، وأبى الغلام فذهب به إلى جبل ليطرح من ذروته فدعا فرجف بالقوم فطاحوا ونجا، فذهبوا به إلى قرقور وهي سفينة صغيرة فلججوا به ليغرقوه فدعا فانكفأت بهم السفينة فغرقوا ونجا. قوال للملك: لست بقاتلي حتى تجمع الناس في صعيد وتصلبني على جذع وتأخذ سهماً من كنانتي وتقول: بسم الله رب الغلام. ثم ترميني به فرماه فوقع في صدغه فوضع يده عليه ومات فقال الناس: آمنا برب الغلام. فقيل للملك: نزل بك ما كنت تحذر فأمر بأخاديد في أفواه السكك، وأوقدت فيها النيران فمن لم يرجع منهم طرحه فيها، حتى جاءت امرأة معها صبي فتقاعست أن تقع فيها فقال الصبي: يا أماه اصبري فإنك على الحق، وما هي إلا غميضة فصبرت واقتحمت».
وعن علي رضي الله عنه أنهم حين اختلفوا في أحكام المجوس، وكان بعض ملوكهم أهل كتاب وكانوا متمسكين بكتابهم، وكانت الخمر قد أحلت لهم فتناولها فسكر فوقع على أخته، فلما صحا ندم وطلب المخرج فقال: إن المخرج أن تخطب الناس فتقول: إن الله عز وجل أحل لكم نكاح الأخوات ثم تخطبهم إن الله حرمه. فخطب فلم يقبلوا منه قالت له: ابسط فيهم السوط فلم يقبلوا. فقالت: ابسط فيهم السيف فلم يقبلوا. فأمرته بالأخاديد وإيقاد النيران وطرح من أبى فيها.
وقيل: وقع إلى نجران رجل ممن كان على دين عيسى فدعاهم فأجابوه فسار إليهم ذو نواس اليهودي بجنود من حمير، فخيرهم بين النار واليهودية فأبوا فأحرق منهم اثني عشر ألفاً في الأخاديد.
وقيل: سبعين ألفاً. وذكر أن طول الأخدود أربعون ذراعاً وعرضه اثنا عشر وقد أشار سبحانه إلى عظم النار إشارة مجملة بقوله: {ذات الوقود} أي لها ما يرتفع به لهبها من الحطب الكثير وأبدان الناس.
وهذه الروايات لا تعارض بينها ولا منافاة فيحتمل أن يكون الكل واقعاً والمجموع مراد الله أو بعضه هو أعلم به.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا وصل إلى ذكر أصحاب الأخدود قال: «نعوذ بالله من جهد البلاء». و{إذ} ظرف لقتل و{هم} عائد إلى الأصحاب و{قعود} جمع قاعد فإن كانوا مقتولين فمعنى قعودهم على النار إما أن يكون هو أن طرحوا عليها وقعدوا حواليها للإحراق وذلك أنهم كانوا يعرضون المؤمنين على النار فكل من ترك دينه تركوه ومن صبر على دينه ألقوه في النار، وإما أن يكون {على} بمعنى (عند) كقوله: {ولهم على ذنب} أي عندي فالمراد بالقتل على هذا التفسير اللعن ويعضده قوله: {وهم} أي الظالمون {على ما يفعلون بالمؤمنين شهود} أي حضور، وفيه وصفهم بقسوة القلب، ووصف المؤمنين بالصلابة في دينهم حيث لم يلتفتوا إليهم وبقوا مصرين عل الحق، أو هو من الشهادة والمعنى أنهم وكلوا بذلك وجعلوا شهوداً يشهد بعضهم لبعض عند الملك أن أحدا منهم لم يفرط فيما أمر به من التعذيب، ويجوز أن يراد شهادة جوارحهم على ذلك يوم القيامة. ثم ذم أولئك الجبابرة بما في ضمنه مدح المؤمنين قائلاً {وما نَقَمُواْ منه} أي وما عابوا وما أنكروا عليهم {إلا أن يؤمنوا} وإنما اختير بناء الاستقبال رمزاً إلى أنهم كانوا يطلبون منهم ترك الإيمان في المستقبل ولم يعذبوهم على الإيمان في الماضي أي عذبوهم على ثباتهم وصبرهم على إيمانهم بمن يستحق أن يؤمنوا به لكونه إلهاً قادراً لا يغالب بليغاً في الكمال بحيث استأهل الحمد كله مالكاً لجميع المخلوقات. وفيه إشارة إلى أنه لو شاء لمنعهم عن ذلك التعذيب لكنه أخرهم إلى يوم الجزاء ودل عليه بقوله: {والله على كل شيء شهيد} ثم عم الوعيد في آيتين أخريين والفتنة البلاء والإيذاء والإحراق. وفي قوله: {ثم لم يتوبوا} دلالة على أن توبة القاتل عمداً مقبولة خلاف ما يروى عن ابن عباس. وعذاب جهنم وعذاب الحريق أما متلازمان كقوله:
إلى الملك القرم ** وابن الهمام

والغرض التأكيد وإما مختلفان في الدركة: الأول لكفرهم، والثاني لأنهم فتنوا أهل الإيمان. وجوز أن يكون الحريق في الدنيا لما روي أن النار انقلبت عليهم فأحرقتهم. ثم رغب ورهب بوجه آخر في آيات والبطش الأخذ بالعنف فإذا وصف بالشدّة كان نهاية. ثم أكده بقوله: {إنه هو يبدئ} البطش {ويعيد} أي يبطش بالجبابرة في الدنيا والآخرة. ويجوز أن يدل باقتداره على الإبداء والإعادة على شدّة بطشه وقوته. وفيه وعيد للكفرة بأنه يعيدهم كما بدأهم ليبطش بهم إذ كفروا بنعمة الإبداء وكذوبوا بالإعادة.
قال ابن عباس: إن أهل جهنم تأكلهم النار حتى يصيروا فحماً ثم يعيدهم خلقاً جديداً فذلك قوله: {هو يبدئ ويعيد} و{الودود} بليغ الودادة والمراد به إيصال الثواب لأهل طاعته إلى الوجه الأتم فيكون كقوله: {ويحبهم} [المائدة: 54] وإن شئت قلت: هو بمعنى مفعول فيكون كقوله: {ويحبونه} [المائدة: 54] وقال القفال: ويكون بمعنى الحليم من قولهم (فرس ودود) وهو المطيع القياد.
قال في الكشاف {فعال} خبر مبتدأ محذوف.
قلت: الأصل عدم الإضمار فالأولى أن يكون خبراً آخر بعد الأخبار السابقة، ولعله حمله على ذلك كونه نكرة وما قبله معارف والعذر عنه من وجهين:
أحدهما قطع النسق بقوله: {ذو العرش} ولاسيما عند من يجوّز {المجيد} صفة {العرش}.
والثاني: تخصيص {فعال لما يريد} فإنه صيره مضارعاً لملضاف.
قال: وإنما قيل {فعال} لأن ما يريد ويفعل في غاية الكثرة.
قلت: ويجوز أن يكون المعنى أن ما يريده فإنه يفعله ألبتة لا يصرفه عنه صارف. ثم ذكرهم وسلى نبيه صلى الله عليه وسلم بقصة {فرعون وثمود} من متأخري الكفار ومتقدميهم، والمراد بـ: {فرعون} هو وجنوده. ثم أضرب عن التذكير إلى التصريح بتكذيب كفار قريش والتنبيه على أنه محيط أي عالم بهم فيجازيهم، ويجوز أن يكون مثلاً لغاية اقتداره عليهم وأنهم في قبضة حكمه كالمحاط إذا أحيط به من روائه فسدّ عليه مسلكه بحيث لا يجد مهرباً. ويجوز أن تكون الإحاطة بمعنى الإهلاك {وظنوا أنهم أحيط بهم} [يونس: 22] ثم سلى رسول صلى الله عليه وسلم بوجه آخر وهو أن هذا القرآن الذي كذبوا به شريف الرتبة في نظمه وأسلوبه حتى بلغ حد الإعجاز وهو مصون عن التغيير والتحريف بقوله: {وإنا له لحافظون} [الحجر: 9].
قال بعض المتكلمين: اللوح شيء يلوح للملائكة فيقرأونه وأمثال هذه الحقائق مما يجب به التصديق سمعا الله حسبي. اهـ.

.قال الخطيب الشربيني:

سورة البروج:
مكية.
وهي اثنتان وعشرون آية.
ومائة وتسع كلمات.
وأربعمائة وثمانية وخمسون حرفاً.
{بسم الله} الذي أحاط علمه بالكائنات {الرحمن} الذي عمّ جوده سائر المخلوقات {الرحيم} الذي خص أهل السعادة بالجنات.
وقوله تعالى: {والسماء} أي: العالية غاية العلوّ، المحكمة غاية الإحكام {ذات البروج} قسم أقسم الله تعالى به، وتقدّم الكلام على ذلك مراراً.
وفي البروج أقوال: فقال مجاهد: هي البروج الاثنا عشر، شبهت بالقصور؛ لأنها تنزلها السيارات.
وقال الحسن: هي النجوم، وقيل: هي منازل القمر.
وقال عكرمة: هي قصور في السماء.
وقيل: عظام الكواكب سميت بروجاً لظهورها.
وقيل: أبواب السماء. وقوله تعالى: {واليوم الموعود} قسم آخر وهو يوم القيامة.
قال ابن عباس: وعد أهل السماء وأهل الأرض أن يجتمعوا فيه.
واختلفوا في قوله سبحانه وتعالى:
{وشاهد ومشهود} فقال أبو هريرة وابن عباس: الشاهد يوم الجمعة والمشهود يوم عرفة.
وروى مرفوعاً: «اليوم الموعود يوم القيامة واليوم المشهود يوم عرفة. والشاهد يوم الجمعة» خرّجه الترمذي في جامعه.
قال القشيري: فيوم الجمعة يشهد على عامله بما عمل فيه.
قال القرطبي: وكذا سائر الأيام والليالي لما روى أبو نعيم الحافظ عن معاوية أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «ليس من يوم يأتي على العبد إلا ينادى فيه يا ابن آدم أنا خلق جديد، وأنا فيما تعمل عليك شاهد، فاعمل فيّ خيراً أشهد لك به غداً فإني إذا مضيت لم ترني أبداً، ويقول الليل مثل ذلك» حديث غريب. وحكى القشيري عن عمر أنّ الشاهد يوم الأضحى.
وقال ابن المسيب: الشاهد يوم التروية، والمشهود يوم عرفة. وروي عن علي: الشاهد يوم عرفة والمشهود يوم النحر.
وقال مقاتل: أعضاء الإنسان هي الشاهد لقوله تعالى: {يوم تشهد عليهم ألسنتهم} (النور).
الآية.
وقال الحسين بن الفضل: الشاهد هذه الأمة والمشهود سائر الأمم لقوله تعالى: {وكذلك جعلناكم أمّة وسطاً}.الآية(البقرة).
وقيل: الشاهد محمد صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى: {إنا أرسلناك شاهداً} (الأحزاب).
وقيل: آدم.
وقيل: الحفظة الشاهد والمشهود أولاد آدم، وقيل: غير ذلك وكل ذلك صحيح.
واختلف في جواب القسم فقال الجلال المحلي: جواب القسم محذوف صدره أي: لقد {قتل} أي: لعن {أصحاب الأخدود} وقال الزمخشري: محذوف ويدل عليه قوله: {قتل أصحاب الأخدود} وكأنه قيل: أقسم بهذه الأشياء أنهم ملعونون يعني: كفار قريش كما لعن أصحاب الأخدود، فإنّ السورة وردت لتثبيت المؤمنين على أذاهم وتذكيرهم بما جرى على من قبلهم. واستظهر هذا البيضاوي. والأخدود: هو الشق المستطيل في الأرض كالنهر، وجمعه أخاديد، واختلف فيهم فعن صهيب أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كان ملك فيمن كان قبلكم وكان له ساحر فلما كبر قال للملك: إني قد كبرت فابعث إلى غلاماً أعلمه السحر، فبعث إليه غلاماً، وكان في طريقه إذا سلك إليه راهب فقعد إليه، وسمع كلامه فأعجبه فكان إذا أتى الساحر مرّ بالراهب فقعد إليه، فإذا أتى الساحر ضربه وإذا رجع قعد إلى الراهب وسمع كلامه، فإذا أتى أهله ضربوه فشكا إلى الراهب فقال: إذا خشيت الساحر فقل: حبسني أهلي، وإذا خشيت أهلك فقل: حبسني الساحر. فبينما هو كذلك إذ أتى على دابة عظيمة قد حبست الناس فقال: اليوم أعلم الراهب أفضل أم الساحر فأخذ حجراً ثم قال: اللهمّ إن كان أمر الراهب أحبّ إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة حتى تمضي الناس فرماها فقتلها فمضى الناس فأتى الراهب فأخبره، فقال له الراهب: أي: بني أنت اليوم أفضل مني قد بلغ من أمرك ما أرى، وإنك ستبلى فإن ابتليت فلا تدل على فكان الغلام يبرئ الأكمه والأبرص ويداوي الناس من سائر الأدواء، فسمع جليس الملك وكان قد عمي فأتاه بهدايا كثيرة فقال: هذا لك أجمع إن أنت شفيتني، فقال: إني لا أشفي أحدا إنما يشفي الله فإن آمنت به دعوت الله تعالى فشفاك فآمن بالله فشفاه الله تعالى، فأتى الملك فجلس إليه كما كان يجلس فقال له الملك: من ردّ عليك بصرك؟ قال: ربي.
قال: ربك رب غيري؟ قال: ربي وربك الله فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الغلام، فجيء بالغلام فقال له الملك: أي: بنيّ قد بلغ من سحرك ما تبرئ الأكمه والأبرص وتفعل وتفعل، قال: إني لا أشفي أحدا إنما يشفي الله فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الراهب، فجيء بالراهب فقال: ارجع عن دينك فأبى فدعا بالمنشار فوضع المنشار في مفرق رأسه فشقه حتى وقع شقاه، ثم جيء بجليس الملك فقيل: له: ارجع عن دينك فأبى ففعل به كالراهب، ثم جيء بالغلام فقيل له: ارجع عن دينك فأبى، فدفعه إلى نفر من أصحابه وقال: إذهبوا إلى جبل كذا فاصعدوا به، فإذا بلغتم ذروته فإن رجع عن دينه وإلا فاطرحوه فذهبوا به فصعدوا به الجبل، فقال: اللهمّ اكفنيهم بما شئت فرجف بهم الجبل فسقطوا وجاء يمشي إلى الملك، فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟ فقال: كفانيهم الله فدفعه إلى نفر من أصحابه، فقال: إذهبوا به فاحملوه في قرقور وتوسطوا به البحر فإن رجع عن دينه وإلا فاقذفوه، فذهبوا به فقال: اللهمّ اكفنيهم بما شئت فانكفأت السفينة بهم فغرقوا، وجاء يمشي إلى الملك، فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟ فقال: كفانيهم الله تعالى. فقال للملك: إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك قال: وما هو؟ قال: تجمع الناس في صعيد وأحد وتصلبني على جذع، ثم خذ سهماً من كنانتي ثم ضع السهم في كبد القوس وقل: بسم الله رب الغلام، ثم ارمني فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني. فجمع الناس في صعيد وأحد وصلبه على جذع، ثم أخذ سهماً من كنانته، ووضع السهم في كبد القوس، ثم قال: بسم الله رب الغلام، ثم رماه فوقع السهم في صدغه فوضع يده على صدغه موضع السهم فمات. فقال الناس: آمنا برب الغلام، آمنا برب الغلام ثلاثاً، فأتى الملك فقيل: له: أرأيت ما كنت تحذر قد والله نزل بك حذرك قد آمن الناس، فأمر بالأخدود بأفواه السكك فحدت وأضرم النيران، وقال: من لم يرجع عن دينه فأقحموه فيها. أو قيل له: اقتحم، قال: ففعلوا حتى جاءت امرأة معها صبي لها فتقاعست أن تقع فيها، فقال الصبي: يا أمّاه اصبري فإنك على الحق فاقتحمت»
.
قال البغوي: هذا حديث صحيح.
وقيل: إنّ الصبي قال لها: قعي ولا تقاعسي.
وقيل: ما هي إلا غميضة فصبرت. وذكر محمد بن إسحاق عن وهب بن منبه أنّ رجلاً كان قد بقي على دين عيسى، فوقع على نجران فأجابوه فسار إليه ذو نواس اليهودي بجنود من حمير، وخيرهم بين النار واليهودية، فأبوا عليه فخدّ الأخاديد وأحرق اثني عشر ألفاً في الأخاديد.
وقيل: سبعين ألفاً. ثم غلب أرياط على اليمن فخرج ذو نواس هارباً واقتحم البحر بفرسه فغرق.
قال الكلبي: وذو نواس قتل عبد الله بن التامر رضي الله عنه.
وقال محمد بن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر أن خربة احترقت في زمن عمر فوجدوا عبد الله بن التامر واضعاً يده على ضربة في رأسه، إذا أميطت يده عنها أنبعت دماً وإذا تركت ارتدّت مكانها، وفي يده خاتم من حديد فيه: ربي الله. فبلغ ذلك عمر فكتب أن أعيدوا عليه الذي وجدتم عليه.
وعن ابن عباس قال: كان بنجران ملك من ملوك حمير يقال له يوسف ذو نواس بن شرحبيل في الفترة قبل أن يولد النبيّ صلى الله عليه وسلم بسبعين سنة، وكان في بلاده غلام يقال له عبد الله بن تامر، وكان أبوه سلمه إلى معلم يعلمه السحر فكره ذلك الغلام، ولم يجد بدّاً من طاعة أبيه فجعل يختلف إلى المعلم، وكان في طريقه راهب حسن الصوت فأعجبه ذلك، وذكر قريباً من معنى حديث صهيب إلى أن قال الغلام للملك: إنك لا تقدر على قتلي إلا أن تفعل ما أقول.
قال: فكيف أقتلك؟ قال: تجمع أهل مملكتك وأنت على سريرك فترميني بسهم على اسم إلهي، ففعل الملك فقتله فقال الناس: لا إله إلا إله، عبد الله بن التامر لا دين إلا دينه، فغضب الملك وأغلق باب المدينة، وأخذ أفواه السكك وأخدّ أخدوداً وملأه ناراً ثم عرضهم رجلاً رجلاً، فمن رجع عن الإسلام تركه، ومن قال: ديني دين عبد الله بن تامر ألقاه في الأخدود وأحرقه، وكان في مملكته امرأة فأسلمت فيمن أسلم ولها أولاد ثلاثة: أحدهم رضيع فقال لها الملك: ارجعي عن دينك وإلا ألقيتك وأولادك في النار فأبت، فأخذ ابنها الأكبر فألقاه في النار، ثم قال لها: ارجعي فأبت فأخذوا الصبي منها ليلقوه في النار فهمت المرأة بالرجوع فقال لها الصبي: يا أمّاه لا ترجعي عن الإسلام فإنك على الحق ولا بأس عليك فألقى الصبي في النار، وألقيت أمّه على أثره.
وعن علي أنهم حين اختلفوا في أحكام المجوس قال: هم أهل كتاب، وكانوا متمسكين بكتابهم، وكانت الخمر قد أحلت لهم، فتناولها بعض ملوكهم فسكر فوقع على أخته فلما صحا ندم وطلب المخرج، فقالت له: المخرج أن تخطب الناس فتقول: يا أيها الناس إنّ الله تعالى أحل لكم نكاح الأخوات، ثم تخطبهم بعد ذلك: أنّ الله تعالى حرّمه. فخطب فلم يقبلوا منه فقالت: ابسط فيهم السوط فلم يقبلوا، فأمرت بالأخاديد وإيقاد النيران وطرح من أبى فيها، فهم الذين أرادهم الله تعالى بقوله: {أصحاب الأخدود} وعن مقاتل: كانت الأخاديد ثلاثة: وأحدة بنجران باليمن، وأخرى بالشام، وأخرى بفارس حرقوا بالنار، أما التي بالشام فهو أبطاموس الرومي، وأما التي بفارس فبختنصر، وأما التي بأرض العرب فهو يوسف ذو نواس. فأما التي بفارس والشام فلم ينزل الله تعالى فيهما قرآناً، وأنزل في التي كانت بنجران. وذلك أنّ رجلاً مسلما ممن يقرأ الإنجيل أجر نفسه في عمل وجعل يقرأ الانجيل فرأت بنت المستأجر النور يضيء من قراءة الإنجيل فذكرت ذلك لأبيها فرمقه فرآه فسأله فلم يخبره، فلم يزل به حتى أخبره بالدين وبالإسلام فتابعه هو وسبعة وثمانون إنساناً ما بين رجل وامرأة، وهذا بعد ما رفع عيسى عليه السلام إلى السماء، فسمع ذلك يوسف ذو نواس فخدّ لهم في الأرض، وأوقد فيها فعرضهم على الكفر، فمن أبى أن يكفر قذفه في النار، ومن رجع عن دين عيسى لم يقذفه، وأنّ امرأة جاءت ومعها صغير لا يتكلم فلما قامت على شفير الخندق نظرت إلى ابنها فرجعت عن النار، فضُربت حتى تقدّمت فلم تزل كذلك ثلاث مرّات، فلما كانت في الثالثة ذهبت ترجع فقال لها ابنها يا أمّاه إني أرى أمامك ناراً لا تُطفأ، فلما سمعت ذلك قذفا جميعاً أنفسهما في النار فجعلها الله وابنها في الجنة. فقذف في النار في يوم وأحد سبعة وسبعون إنساناً فذلك قوله تعالى: {قتل أصحاب الأخدود}.
وقوله تعالى: {النار} بدل اشتمال من {الأخدود}. وقوله تعالى: {ذات الوقود} وصف لها بأنها نار عظيمة لها، ما يرتفع به لهبها من الحطب الكثير وأبدان الناس، واللام في الوقود للجنس.
وقوله تعالى: {إذ هم عليها قعود} ظرف لـ: {قتل} أي: لعنوا حين أحرقوا بالنار قاعدين حولها، ومعنى عليها على ما يدنوا منها من حافات الأخدود كقوله:
وبات على النار الندى والمحلق

وكما تقول: مررت عليه تريد مستعلياً المكان الذي يدنو منه، فكانوا يقعدون حولها على الكراسي.
وقال القرطبي: عليها. قوله وقال القرطبي عليها كذا في جميع النسخ وفيه سقط فراجعه.
{وهم على ما يفعلون بالمؤمنين} بالله من تعذيبهم بالإلقاء في النار إن لم يرجعوا عن إيمانهم {شهود} أي: يشهد بعضهم لبعض عند الملك بأنه لم يقصر فيما أمر به أو {شهود} بمعنى حضور، إذ روي أنّ الله تعالى أنجى المؤمنين الملقين في النار بقبض أرواحهم قبل وقوعهم فيها وخرجت النار إلى القاعدين فأحرقتهم.قال الرازي: يمكن أن يكون المراد بـ: {أصحاب الأخدود} القاتلين، ويمكن أن يكون المراد بهم المقتولين. والمشهور أن المقتولين هم المؤمنون. وروي أن المقتولين هم الجبابرة.
روي أنهم لما ألقوا المؤمنين في النار عادت النار على الكفرة فأحرقتهم، ونجّى الله المؤمنين منها سالمين وإلى هذا القول ذهب الربيع بن أنس والوأحدي. وتأوّلوا قوله تعالى: {فلهم عذاب جهنم} أي: في الآخرة {ولهم عذاب الحريق} أي: في الدنيا.
فإن فسر {أصحاب الأخدود} بالقاتلين فيكون قوله تعالى: {قتل أصحاب الأخدود} دعاء عليهم كقوله تعالى: {قتل الإنسان ما أكفره} (عبس).
وإن فسر بالمقتولين كان المعنى: أنّ المؤمنين قتلوا بالنار فيكون ذلك خبراً لا دعاءً. والمقصود من هذه الآية: تثبيت قلوب المؤمنين وإخبارهم بما كان يلقاه من قبلهم من الشدائد. وذكر لهم النبيّ صلى الله عليه وسلم قصة الغلام ليصبروا على ما يلقون من أذى الكفار ليتأسوا بهذا الغلام في صبره على الأذى والصلب، وبذل نفسه في إظهار دعوته ودخول الناس في الدين مع صغر سنه، وكذلك صبر الراهب على التمسك بالحق حتى نشر بالمنشار، وكذلك أكثر الناس لما آمنوا بالله تعالى.
{وما نَقَمُواْ} أي: وما أنكروا وكرهوا {منهم} من الخلات وكان ذنباً ونقصاً {إلا أن يؤمنوا} أي: يجدّدوا الإيمان مستمرّين عليه {بالله} أي: الذي له الكمال كله {العزيز} في ملكه الذي يغلب من أراد ولا يغلبه شيء.
{الحميد} أي: المحيط بجميع صفات الكمال، فهو يثيب من أطاعه أعظم ثواب وينتقم ممن عصاه بأشدّ العذاب. وهذا استثناء على طريقة قول القائل:
ولا عيب فيهم غير أنَّ سيوفهم ** بهن فلول من قراع الكتائب

أي: من ضرابها، والكتائب بالتاء المثناة: جمع كتيبة وهي الجيش، وقال ابن الرقيات:
ما نَقَمُواْ من بني أمية إلا ** أنهم يحلمون إن غضبوا

ونظيره قوله تعالى: {هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله} (المائدة).
ولما ذكر تعالى الأوصاف التي يستحق بها أن يؤمن به ويعبد، وهو كونه عزيزاً غالباً قادراً يخشى عقابه، حميداً منعماً يجب الحمد على نعمه، ويرجى ثوابه قرر ذلك بقوله تعالى: {الذي له} أي: خاصة {ملك السموات والأرض} أي: على جهة العموم مطلقاً، فكل من فيهما يحق عليه عبادته والخشوع له تقديراً، لأنّ ما نَقَمُواْ منهم هو الحق الذي لا ينقمه إلا مبطل منهمك في الغيّ، وإنّ الناقمين أهلٌ لأنتقام الله تعالى منهم بعذاب لا يعدله عذاب.
{والله} الملك الأعظم الذي له الإحاطة الكاملة {على كل شيء شهيد} فلا يغيب عنه شيء، وهذا لأنّ الله علم ما فعلوا وهو مجازيهم عليه.
ولما ذكر قصة أصحاب الأخدود أتبعها ما يتفرّع من أحكام الثواب والعقاب فقال تعالى: {إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات} أي: أحرقوهم بالنار، يقال: فتنت الشيء إذا أحرقته، والعرب تقول: فتن فلان الدرهم والدينار إذا أدخله الكور لينظر جودته. ونظيره {يوم هم على النار يفتنون} (الذاريات).
قال الرازي: ويحتمل أن يكون المراد: كلُّ مَنْ فَعَلَ ذلك.
قال: وهذا أولى لأنّ اللفظ عامّ والحكم عامٌّ، والتخصيص ترك للظاهر من غير دليل.
ولما كانت التوبة مقبولة قبل الغرغرة ولو طال الزمان عبر سبحانه بأداة التراخي فقال تعالى: {ثم لم يتوبوا} أي: عن كفرهم وعما فعلوا.
{فلهم عذاب جهنم} أي: بكفرهم {ولهم عذاب الحريق} أي: عذاب إحراقهم المؤمنين في الآخرة، وقيل: في الدنيا فأحرقتهم كما تقدّم، ومفهوم الآية أنهم لو تابوا لخرجوا من هذا الوعيد، وذلك يدل على أنّ الله تعالى يقبل التوبة من القاتل المتعمد خلاف ما يروى عن ابن عباس رضي الله عنهما. ولما ذكر سبحانه وعيد المجرمين ذكر ما أعدّ للمؤمنين بقوله تعالى: {إن الذين آمنوا} أي: أقرّوا بالإيمان من المقذوفين في النار وغيرهم من كل طائفة في كل زمان {وعملوا الصالحات} تحقيقاً لإيمانهم {لهم جنات} أي: بساتين تفضلاً منه تعالى: {تجري من تحتها} أي: تحت غرفها وأسرّتها وجميع أماكنها {الأنهار} يتلذذون ببردها في نظير ذلك الحرّ الذي صبروا عليه في الدنيا، ويزول عنهم برؤية ذلك مع خضرة الجنان جميع المضارّ والأحزان.
{ذلك} أي: الأمر العالي الدرجة العظيم البركة {الفوز} أي: الظفر بجميع المطالب {الكبير} وهو رضا الله تعالى لا دخول الجنة.
وقال تعالى: {ذلك الفوز} ولم يقل تلك، لأنّ ذلك إشارة إلى إخبار الله تعالى بحصول الجنان وتلك إشارة إلى الجنة الوأحدة، وإخبار الله تعالى عن ذلك يدل على كونه راضياً.
{إنّ بطش ربك} أي: أخذ المحسن إليك المربي لك المدبر لأمرك الجبابرة والظلمة {لشديد} كقوله تعالى: {وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إنّ أخذه أليم شديد} (هود).
قال المبردّ: {إنّ بطش ربك} جواب القسم، والبطش هو الأخذ بعنف فإذا وصف بالشدّة فقد تضاعف. ولما كان هذا البطش لا يتأتى إلا لكامل القدرة دل على كمال قدرته واختصاصه بذلك بقوله تعالى مؤكداً لما له من الإنكار:
{إنه هو} أي: وحده {يبدئ} أي: يوجد ابتداء أيّ خلق أراد إلى أيّ هيئة أراد {ويعيد} أي: ذلك المخلوق عند البعث.
وروى عكرمة قال: عجب الكفار من إحياء الله تعالى الأموات أي: فنزلت.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: يبدئ لهم عذاب الحريق في الدنيا ثم يعيده عليهم في الآخرة، وهذا اختيار الطبري.
وقيل: يبدئ البطش ويعيده فيبطش بهم في الدنيا والآخرة، أو دل باقتداره على الإبداء والإعادة على شدّة بطشه، أو أوعد الكفرة بأن يعيدهم كما بدأهم ليبطش لهم؛ إذ لم يشكروا نعمة الإبداء وكذبوا بالإعادة.
{وهو} أي: وحده {الغفور} أي: الستور لعباده المؤمنين.
وقرأ قالون وأبو عمرو والكسائي بسكون الهاء والباقون بضمها.
وقوله تعالى: {الودود} مبالغة في الود.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: هو المتودّد لعباده بالمغفرة، وعن المبرد: هو الذي لا ولد له. وأنشد:
وأركب في الودّ عريانة ** ذلول الجماع لقاحاً ودودا

أي: لا ولد لها تحنّ إليه.
وقيل: هو فعول بمعنى مفعول كالركوب والحلوب بمعنى المركوب والمحلوب.
وقيل: يغفر ويودّ أن يغفر.
{ذو العرش} ومالكه، أي: ذو الملك والسلطان كما يقال فلان على سرير ملكه، وإن لم يكن على سرير، ويقال: ثلّ عرشه، أي: ذهب سلطانه، أو السرير الدال على اختصاص الملك بالملك، وانفراده بالتدبير والسيادة والسياسة الذي به قوام الأمور.
وقرأ {المجيد} حمزة والكسائي بجرّ الدال على أنه نعت لـ: {العرش} أو لـ: {ربك} في قوله تعالى: {إن بطش ربك} قال مكي: وقيل: لا يجوز أن يكون نعتاً للعرش لأنه من صفات الله تعالى اهـ. وهذا ممنوع لأنّ مجد العرش علوّه وعظمه كما قاله الزمخشري. وقد وصف العرش بالكريم في آخر المؤمنين.
وقرأ الباقون برفع الدال على أنه خبر بعد خبر.
وقيل: هو نعت لذو، واستدل بعضهم على تعدّد الخبر بهذه الآية، ومن منع قال لأنها في معنى خبر وأحد، أي: جامع بين هذه الأوصاف الشريفة، أو كل منها خبر لمبتدأ مضمر، والمجد: هو النهاية في الكرم والفضل، والله سبحانه موصوف بذلك وتقدّم وصف عرشه بذلك.
{فعالٌ} أي: على سبيل التكرار والمبالغة {لما يريد} قال القفال: أي: يفعل ما يريد على ما يراه لا يعترض عليه أحد، ولا يغلبه غالب فيدخل أولياءه الجنة لا يمنعه مانع، ويدخل أعداءه النار لا ينصرهم منه ناصر، ويمهل العصاة على ما يشاء إلى أن يجازيهم، ويعاجل بعضهم بالعقوبة إذا شاء، فهو يفعل ما يريد.
وعن أبي اليسر: دخل ناس من الصحابة على أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه يعودونه فقالوا: ألا نأتيك بطبيب؟ قال: قد رآني.
قالوا: فمإذا قال لك؟ قال: إني فعال لما أريد.
وقال الزمخشري: {فعال} خبر مبتدأ محذوف، وإنما قال: {فعال} لأنّ ما يريد ويفعل في غاية الكثرة.
وقال الطبري: رفع {فعال} وهو نكرة محضة على وجه الإتباع لإعراب {الغفور الودود}.
تنبيه:
دلت هذه الآية أنّ جميع أفعال العباد مخلوقة لله تعالى.
قال بعضهم: ودلت على أنّ الله تعالى لا يجب عليه شيء لأنها دالة على أنه يفعل ما يريد.
{هل} أي: قد {أتاك} أي: يا أشرف الرسل {حديث} أي: خبر {الجنود} أي: الجموع الكافرة المكذبة لأنبيائهم وقوله تعالى: {فرعون وثمود} يجوز أن يكون بدلاً من {الجنود}، واستشكل كونه بدلاً؛ لأنه لم يكن مطابقاً للمبدل منه في الجمعية. وأجيب: بأنه على حذف مضاف، أي: جنود فرعون وأنّ المراد فرعون وقومه، واستغنى بذكره عن ذكرهم لأنهم أتباعه، ويجوز أن يكون منصوباً بإضمار أعني لأنه لما لم يطابق ما قبله وجب قطعه.
والمعنى: إنك قد عرفت ما فعل الله تعالى بهم حين كذبوا رسلهم كيف هلكوا بكفرهم فقومك إن لم يؤمنوا بك فعل بهم كما فعل بهؤلاء، فاصبر كما صبر الأنبياء قبلك على أممهم.
{بل الذين كفروا} أي: من هؤلاء الذين لا يؤمنون بك {في تكذيب} لك لا يرعوون عنه، ومعنى الإضراب: أنّ حالهم أعجب من حال هؤلاء فإنهم سمعوا قصتهم ورأوا آثار هلاكهم وكذبوا أشدّ من تكذيبهم، وإنما خص {فرعون وثمود} لأنّ ثمود في بلاد العرب وقصتهم عندهم مشهورة، وإن كانوا من المتقدّمين، وأمر فرعون كان مشهوراً عند أهل الكتاب وغيرهم، وكان من المتأخرين في الهلاك فدل بهما على أمثالهما.
وقوله تعالى: {والله} أي: والحال أن الملك الذي له الكمال كله {من ورائهم محيط}.
وفيه وجوه:
أحدها: أن المراد وصف اقتداره عليهم وأنهم في قبضته وحصره، كالمحاط إذا أحيط به من ورائه ينسدّ عليه مسلكه فلا يجد مهرباً، يقول الله تعالى: فهم كذا في قبضتي وأنا قادر على إهلاكهم ومعاجلتهم بالعذاب على تكذيبهم إياك فلا تجزع من تكذيبهم، إياك فليسوا يفوتونني إذا أردت الانتقام منهم.
ثانيها: أن يكون المراد من هذه الإحاطة قرب هلاكهم كقوله تعالى: {وظنوا أنهم أحيط بهم} (يونس).
فهو عبارة عن مشارفة الهلاك.
ثالثها: أنه تعالى محيط بأعمالهم، أي: عالم بها فيجازيهم عليها.
{بل هو} أي: هذا القرآن الذي كذبوا به، وهو لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه {قرآن} أي: جامع لكل منفعة جليلة بالغ الذروة العليا في كل شرف {مجيد} أي: شريف وحيد في اللفظ والمعنى، وليس كما زعم المشركون أنه شعر وكهانة.
{في لوح} هو في الهواء فوق السماء السابعة.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: إن في صدر اللوح لا إله إلا الله وحده، دينه الإسلام، ومحمد عبده ورسوله، فمن آمن بالله عز وجل وصدّق بوعيده واتبع رسله أدخله الجنة، قال: واللوح لوح من درّة بيضاء طوله ما بين السماء والأرض، وعرضه ما بين المشرق والمغرب، وحافتاه الدرّ والياقوت، ودفتاه ياقوتة حمراء، وقلمه نور وكلامه نور، معقود بالعرش وأصله في حجر ملك.
وقرأ {محفوظ} بالرفع نافع على أنه نعت لـ: {قرآن}، والباقون بالجرّ على أنه نعت لـ: {لوح}.
وقال مقاتل: اللوح المحفوظ عن يمين العرش وقال البغوي: هو أمّ الكتاب، ومنه تنسخ الكتب محفوظ من الشياطين ومن الزيادة فيه والنقصان. وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة البروج أعطاه الله تعالى بعدد كل يوم جمعة وكل يوم عرفة يكون في الدنيا عشر حسنات» حديث موضوع. اهـ.